**تحديات الإعلام التونسي- بين حرية التعبير والقمع السياسي**

المؤلف: نبيل الريحاني10.23.2025
**تحديات الإعلام التونسي- بين حرية التعبير والقمع السياسي**

الأخبار المتدفقة من تونس حول وضع الإعلام تثير القلق والحزن العميق، وعلى الرغم من أن الصورة لم تكن مثالية على الإطلاق في الماضي القريب والبعيد، إلا أن هناك دلائل متضافرة تشير إلى أن التحديات الراهنة التي يواجهها الإعلام التونسي تبدو أكثر خطورة وأهمية من أي وقت مضى.

مشهد معلول

بين التهويل والتهوين، يمكن القول بأن الخوض في أعماق المشهد الإعلامي التونسي يجعل أي محاولة لتقييمه عرضة لانتقادات شديدة من مختلف الأطراف الفاعلة في هذا المجال، سواء من داخل المؤسسات الإعلامية أو من قوى خفية وظاهرة تعتبر الإعلام والعاملين فيه من أهم أدواتها ورهاناتها.

في مسعىً للخروج من دائرة الاستقطاب الداخلي الحاد، نستطيع الإشارة إلى تقريرين صدرا مؤخرًا عن منظمتي العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، واللتين اتفقتا على أن الإعلام في تونس يتعرض لتصعيد ملحوظ من قبل السلطات التونسية يهدف إلى قمع حرية التعبير والصحافة، وخاصة في الأسابيع القليلة الماضية.

أكدت منظمة العفو الدولية أن "السلطات التونسية تعمل بشكل منهجي على تقويض آخر المكاسب التي تحققت في ثورة 2011، ألا وهي حرية التعبير والصحافة، وذلك قبيل الانتخابات المرتقبة".

في هذا السياق، تشير المنظمات الحقوقية، ومن قبلها نقابة الصحفيين التونسيين، إلى ما يعتبرونه استخدامًا مفرطًا للعصا القضائية من قبل السلطات التونسية، وتحديدًا المرسوم 54، الذي أصبح ذريعة للملاحقات القضائية التي تستهدف شخصيات إعلامية بارزة، يجمع بين غالبيتها انتقادها لسياسات الرئيس التونسي قيس سعيد.

يهدف المرسوم 54، الذي يثير جدلاً واسعًا، إلى مكافحة الجرائم المتعلقة بأنظمة المعلومات والاتصال، ويتضمن عقوبات صارمة للغاية تصل إلى السجن لمدة عشر سنوات وغرامات مالية باهظة.

طوال فترة هذا الجدل، يشدد الرئيس سعيد على أن الحريات العامة والإعلامية مصونة في تونس، لكنه يؤكد في الوقت نفسه أن هذا لا يعفي من يتعمد نشر الأخبار الزائفة والتشهير بالآخرين والإساءة إليهم، سواء عبر وسائل الإعلام التقليدية أو مواقع التواصل الاجتماعي، من الامتثال للقانون وتحمل مسؤولية أفعالهم.

يرد منتقدو هذا الطرح بتقديم ملفات لقضايا مبنية على مجرد تدوينات على موقع فيسبوك، تتضمن انتقادات لسياسات الرئيس سعيد ولأداء الحكومات التي شكلها في ظل صلاحيات واسعة منحها لنفسه بموجب دستور قام هو بصياغته.

هذا ما حدث، بحسب وجهة نظر هؤلاء المنتقدين، مع عدد من الصحفيين البارزين، مثل محمد بوغلاب ومراد الزغيدي وبرهان بسيسي وزياد الهاني، إلا أن نطاق المرسوم 54 اتسع ليشمل مدونين ومواطنين عاديين، وصل عددهم إلى العشرات، وسط تحذيرات من تزايد التضييق الأمني والقضائي على الواقع التونسي وفقًا لأهواء الرئيس سعيد وأنصاره.

سياق أوسع

في الوقت الذي يؤكد فيه المدافعون عن الحريات الإعلامية في تونس أن القوانين المعمول بها منذ سنوات تتضمن ما يكفي لمعاقبة الإعلاميين على أي تجاوزات قد يرتكبونها، ويشددون على أن ما يحدث في الواقع ما هو إلا سياسة ممنهجة لإسكات الأفواه وقمع الأصوات المستقلة، ترتبط بالأجندة السياسية والانتخابية للرئيس سعيد وتزداد حدة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، تحيل مقاربات أخرى إلى سياق أوسع نطاقًا، كما هو الحال في المجال السياسي، مع الأخذ في الاعتبار الفارق الجوهري بين المجالين.

تؤكد هذه المقاربات، وبعضها أكاديمي، كما هو الحال في دراسات بحثية قيمة قدمها الدكتور صادق الحمامي، أن مشاكل الإعلام في تونس تعود إلى جذور مهنية وقانونية وسياسية عميقة، ولا تقتصر على الأحداث الأخيرة.

تشير هذه الرؤية إلى الأدوار التي لعبها الإعلام في تونس في عهدي الرئيسين الراحلين بورقيبة وبن علي، وهي فترة زمنية طويلة جدًا لا يمكن الخوض في تفاصيلها هنا، إلا أن الواضح فيها هو انقسام التجارب الإعلامية إلى قسم كبير سار في ركاب السلطة وقضى عقودًا في الترويج لسياساتها ومهاجمة خصومها، حتى إذا اندلعت ثورة 2011، أصبح هذا الإعلام هدفًا لهجوم الثوار، الذين وصفوه بأنه واجهة للنظام القديم وبؤرة لتجمع الانتهازيين والمتسلقين المستعدين لبيع ضمائرهم لمن يدفع أكثر.

في المقابل، كانت هناك تجارب قليلة لما يمكن تسميته بالإعلام المعارض، الذي دار في فلك أحزاب وشخصيات معارضة، وتعرض للملاحقة والقمع بنفس القدر الذي عانى منه أولئك المعارضون، وهنا يمكننا أن نذكر، على سبيل المثال لا الحصر، تجربة جريدة "الموقف" الناطقة باسم الحزب الاشتراكي التقدمي.

الجدير بالملاحظة هنا هو أن الإعلام الرسمي والمعارض كانا، من حيث الجوهر، وجهين لعملة واحدة، حيث كانا يلعبان دورًا وظيفيًا على هامش المعركة السياسية، كسلاح يحاول أصحابه استخدامه لكسب معركة المعلومة واستمالة العقول والقلوب.

ثالث مرفوع

أما الطرف الثالث، الذي كان مهمشًا في هذا المشهد، فهو الإعلام المهني المستقل، حيث لم تُتح الساحة التونسية مساحة كبيرة للتجارب المتحررة من الأغراض السياسية المباشرة، باستثناء بعض العناوين مثل مجلة "المغرب العربي" ومجلة "حقائق"، وقبلهما جريدة "الرأي"، التي كانت بمثابة وميض سرعان ما أخمد النظام البورقيبي نوره في مهده.

من هذا المنظور، يمكن القول إن ثورة 2011 مثلت فرصة تاريخية للإعلام التونسي في اتجاهات مختلفة، أهمها مكاشفة ومحاسبة تجارب الماضي، بهدف تطهير المؤسسات الإعلامية التونسية من بقايا المأجورين الذين كانوا في الواقع مخبرين وموظفي دعاية للدكتاتورية.

ومن بين هذه الاتجاهات أيضًا فتح ملف الإعلام على حوار وطني معمق يتناول كيفية إرساء أسس استقلاليته عن بقايا النظام القديم والأحزاب السياسية ورأس المال، الذي اختفى مؤقتًا تحت وطأة الأحداث، ثم عاد تدريجيًا وانتبه إلى الدور المحوري للإعلام في تشكيل ملامح عقد الانتقال الديمقراطي وتوجيه الرأي العام التونسي.

في بدايات الثورة، ظهر "إعلاميون" قدموا اعتذاراتهم للشعب التونسي على ما ارتكبوه من أخطاء في خدمة الدكتاتورية، وسارعت بعض المؤسسات الإعلامية إلى تغيير جلدها والانفتاح على مطالب الناس والمعارضين وعرض قصصهم، وكشف المستور من عمليات "تبييض" نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.

ومثلما انزلقت الساحة السياسية إلى استقطاب علماني-إسلامي أرسى قواعد لانقسامات خطيرة حكمت لاحقًا على الانتقال الديمقراطي بالفشل المتعمد، سارع المشهد الإعلامي هو الآخر إلى الانحياز إلى الأجندات المختلفة، وبدأ يلعب دورًا أخطر من الذي كان يلعبه في عهد الدكتاتورية، وذلك من خلال خلط الحق بالباطل في العديد من القضايا، ولم يعد سرًا في تونس أن إعلامها، الذي يتمتع بسقف غير مسبوق من الحريات الإعلامية، لم ينتج تجارب رائدة تعكس الأفق الذي حاولت الثورة التونسية التوجه نحوه.

إعلام الكراهية!

على الرغم من وجود أصوات وجهات دعت مرارًا وتكرارًا إلى ضرورة استغلال الفرصة والارتقاء فوق المعارك الأيديولوجية الضيقة، بقيت تلك الأصوات هامشية، والمفارقة هي أن صعود البلاد في تصنيف الحريات الإعلامية، الذي تنشره منظمة "مراسلون بلا حدود"، قابله تدهور في المضمون الإعلامي في تونس، حيث وقع في مصائد خطيرة، من بينها خطاب الكراهية الذي تصاعد بشكل كبير من منابر الإعلام وصفحاته، سواء التقليدية أو على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو الأمر الذي وثقه تقرير أعدته المجموعة العربية لرصد الإعلام، بالشراكة مع "المجلس الوطني للحريات في تونس" و"شبكة تحالف من أجل نساء تونس"، وجاء فيه أن "الإعلام التونسي بات يلعب دور التحريض وتنمية مشاعر الحقد والكراهية بين مختلف أطياف الشعب التونسي".

يكفي أن نشير إلى أحد مخرجات ذلك التقرير، الذي مر بالساحة الإعلامية مرور الكرام تقريبًا، فقد أشار إلى أن "الصحف الناطقة باللغة العربية نشرت حوالي 90% من خطابات الكراهية، في حين اكتفت مثيلتها الناطقة بالفرنسية بالنسبة المتبقية، وتضمن حوالي 13% من هذه الخطابات دعوات ضمنية أو صريحة للعنف".

الغريب في الأمر أن تقريرًا آخر، تناول نفس هذه الظواهر بعد قرابة عقد من الانتقال الديمقراطي، وجد نفسه أمام نفس الاستنتاجات، على الرغم من كل ما جرى من حوارات وعقد من ندوات ودورات تدريبية للنهوض بواقع الإعلام وتعزيز قيم المهنة والاستقلالية لديه، فها هو "مركز دعم التحول الديمقراطي" يقول في تقرير له نشره في مارس/آذار 2020، بعد أن سرد أرقامًا ونسبًا رصد بها رسوخ وتصاعد خطاب الكراهية في الإعلام التونسي، إن كل ما اتخذ من قرارات وإجراءات لم ينجح في تخليص ذلك الإعلام من هذه الوصمة.

ثيران بيضاء

كثيرة هي الجهات التي تدعي اليوم أن الإعلام التونسي انهار بسبب تلك الأسباب البعيدة والقريبة لما يمكن وصفه بالأزمة المزمنة للإعلام في تونس، ولكن المؤكد هو أن هذا الإعلام يواجه اليوم تحديًا مصيريًا وسط موجة الشعبوية التي اجتاحت تونس، كما هو الحال في العديد من البلدان الأخرى، وهو الأمر الذي يبدو أكثر وضوحًا على مواقع التواصل الاجتماعي، التي احتكرت الخطاب المنتج من رجل الشارع والموجه إليه.

وإذا كان الإعلام التقليدي مسؤولًا عما ينشره وملتزمًا بمعايير المهنة وما يرتبط بها من قيم وقوانين، فإن العالم الافتراضي يعج بالصفحات والمجموعات التي لا تخضع لرقابة ولا محاسبة على ما تبثه من أخبار زائفة وتشهير بالأشخاص وانتهاك للأعراض، وسط اتهامات للسلطات التونسية بممارسة الانتقائية في التعامل مع ذلك، في إشارة إلى حملات شيطنة وتشويه وسب وقذف شنتها صفحات تعلن ولاءها للرئيس سعيد وتأييدها لمساره السياسي، دون أن يتعرض أحد من المشرفين عليها للتحقيق والمساءلة، إلا في سياق صراعات داخلية، مما يجعل الأمر، في نظر منتقديه، أقرب إلى تصفية الحسابات منه إلى الحرص على سلامة المناخ الإعلامي العام.

لا شك أن الأولوية اليوم هي الدفاع عن حرية الإعلام واستقلاليته، وكذلك الدفاع عن العاملين في هذا المجال لحمايتهم من أي قمع قد يتعرضون له، ولكن المهمة الأصعب في الحقيقة تبقى ممارسة النقد الذاتي إلى أقصى حد، للتخلص من سيطرة الأيديولوجيا – وخاصة الاستئصالية منها – على الإعلام والعمل النقابي الإعلامي، ذلك أن استمرار هذه الظواهر واستغلال الذمم من قبل الكيانات السياسية والمالية والجهات الرسمية والمعارضة، يسلب معركة الحريات الإعلامية أساسها الأخلاقي والقيمي، ويفرغها من مضمونها النبيل الذي يفترض أن يكون إلى جانب الإنسان مهما كان، وأن يبحث عن الحقيقة وينشرها بغض النظر عن الأجندات، وأن يكون صوتًا لمن لا صوت لهم.

إنها مهمة فرسان الكلمة ومعركتهم قبل أي طرف آخر، سواء كان رسميًا أم غيره، والنجاح فيها سيعني الحصانة ضد أي محاولات للتدجين والتخويف والاستغلال. وهذا الحديث ما هو إلا بداية لسلسلة من التغييرات المحتملة التي قد تشهدها الساحة التونسية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة